
كان هذا منذ تسعة عشر عاماً, أعني كان عمري تسع سنوات, أعني زمن الطفولة قبل كل شيء.. أبالغ كثيراً في هذه اللغة حتى أصل إلى نقطة البداية لهذا الزمان. أرجع بذاكرتي إلى عام 2009 أتمنى ان تعود مطمئنة أو تتظاهر بأنها كذلك كما اعتادت.
أحدث الزمان الكثير من الفجوات في ذاكرتي تثقلني هذه البدايات, أعجز عن تزيينها؛ ربما أستغرق وقتاً أطول في تفاصيلها و أخشى إثباتها بالأحرف كي لا تفقد قيمتها! أخشى أن أظلمها؛ فهي جزءُُ من حياتي, أو ربما هي كل حياتي.
يوم الجمعة و ليس كأي يوم, يأخذني جدي إلى مقر عمله, يرحب بالأصحاب و الجميع يبتسم لعيناي و جدي بكل فخر يردد لهم: ” هذه حفيدتي الجميلة”. بعد الخامسة مساءً, يبدأ جدي باستلام الرسائل و إعدادها لللمغادرة إلى القلوب المتلهفة التي تنتظرها منذ مدة ليست بالقليلة. كنت أسأل جدي: ألا تسئم من تكرار ذات الأمر كل يوم! و كانت إجابته دائماً الصمت و التبسم. كان يأمرني ألا أذهب بعيداً أو كان يحميني, لكني أهرب مرات عديدة إلى الجانب الآخر من مقر عمله, و أغرق في ألوان و أشكال الرسائل؛ حتى الروائح كانت تأسرني.. ينتهي بي الأمر بصوت جدي يناديني بعد أن كان باحثاً عني, و أغادر بالكثير من التعزيزات من الحلوى و السكاكر و النقود و رأسي ينبض بالرسائل.
وعدني جدي أن يكتب لي رسالة .. و أنا أعرف أن جدي لا يكسر وعوده. أستيقظ كل صباح, آخذ موطناً في ذات المكان, أنتظر أن يأتي جدي ليأخذني إلى الشاطئ و أغوص في الرسائل. أنتظر و أتسائل ماذا سيبهرني أكثر من تلك الرسالة المطبوع فيها قبلات دمشقية أو تلك برائحة المسك و لا أنسى التي كانت تحمل في طياتها عباد الشمس. أنتظر و هذه المرة في يدي ورقة و قلم أريد أن أتأمل الرسائل و أكتب بينما ينشغل جدي بعمله. أنتظر و أسمعهم يتهامسون أن جدي أصابه الزهايمر و أصبح لا يقوى على عمله و لكنني أتجاهلهم لأنني موجودة سأساعده حتى لاتتأخر الرسائل عن أصحابها. أنتظر و أتذكر سؤالي الدائم له لماذا لا ييأس! عرفت الآن أن الرسائل تذيب المسافات و الوحدة و الظلمة و أريد أن أخبره بشغف أني عرفتي سر الإجابة بالصمت و التبسم. أنتظر و أمسك القهوة أتظاهر بتأمل الغروب بينما في الحقيقة أنا فقط أنتظر جدي.
أنتظر و مازلت أنتظر….